ينجح الإنسان في حياته عندما يكون مستعد للتكيف مع التغيرات، وقد أثبت البشر على مر التاريخ قدرتهم على التأقلم مع الظروف القاسية، ويشهد على هذه الحقيقة بناء المنازل فوق الركائز العالية في المناطق المعرضة للفيضانات، وتغطية الأسقف بمواد عاكسة لدرء الحرارة في الظروف المناخية الجافة. يشهد قطاع الأعمال التجارية تغيرات جذرية وسريعة مثلما حدث أثناء جائحة "كوفيد- 19" (Covid-19) التي أجبرت الشركات على إغلاق مكاتبها، والانتقال للعمل عبر الإنترنت. تطلبت هذه النقلة النوعية لنظام العمل عن بعد تزويد الموظفين بالأدوات التي يحتاجون إليها، وتطبيق برامج تدريب تساعدهم في التأقلم مع هذه البيئة الجديدة.
يعتمد التأقلم على التعلم والمعرفة، أي يجب على الفرد أن يفهم ظروف الوضع الجديد وينقل معرفته إلى بقية أفراد المجموعة لكي تجري عملية التأقلم بحسب الحاجة. يُطلَق اسم "المؤسسة التعليمية" على الشركة التي تعطي الأولوية الإستراتيجية للتعلم المستمر، وهي تتميز بمقدرة بارزة على التعامل مع التغيرات غير المحسوبة في قطاع العمل.
تهدف ثقافة المؤسسة التعليمية إلى التعلم من الأخطاء، وزيادة اندماج فِرَق العمل، والتأقلم مع التغيرات غير المحسوبة التي تحدث في السوق بسرعة قبل بقية المنافسين.
تقتضي ثقافة المؤسسة التعليمية إعطاء الأولوية للتعلم ضمن سياق العمل اليومي، وذلك عبر فرض إجراءات وإستراتيجيات تعزز عملية التعلم، وتزويد الموظفين بالأدوات والوسائل التي يحتاجون إليها لتبادل المعلومات والخبرات، مما يخفف عبء العمل الواقع على قسم "التعلم والتطوير" (L&D). تشجع هذه الثقافة من ناحية أخرى على تبادل المعلومات، والتعلم من الأخطاء، واستخدام تقنيات وإستراتيجيات حديثة في التعلم.
تعتمد المؤسسة التعليمية بشكل أساسي على تبادل المعلومات، وهي تطبق إستراتيجيات وأدوات التعلم التعاوني حتى يتسنى لكل موظف أن يشارك خبراته مع زملائه ويتعلم منهم. تُستخدَم "أنظمة إدارة التعلم" (LMS) التعاونية لإتاحة فرص التعلم والتطوير لجميع الموظفين.
ثمة بعض القواسم المشتركة بين مبدأ عمل المؤسسة التعليمية والشركات التي تعتمد الهيكل التنظيمي المسطح، وذلك لأنها تشجع الموظف على مشاركة معلوماته وخبراته مع زملائه واستثمار جميع الفرص المتاحة للتعلم منهم، وهذا يشمل التعلم من الهفوات الفردية والأخطاء الكبيرة على نطاق المؤسسة.
تختلف المؤسسات التعليمية في خصائصها وإجراءات عملها، ولكنها تشترك في 5 أركان أساسية يمكن تلخيصها على النحو التالي:
تستثمر المؤسسة التعليمية جميع الفرص المتاحة للتعلم والابتكار والتطوير ثم تقوم بتوسيع نطاق العمل على مستوى الشركة بأكملها.
تجري المؤسسات التعليمية تجارب منتظمة بحثاً عن الفرص المتاحة للتعلم والنمو، كما أنها تستفيد من التجارب التي تحدث على أرض الواقع في إيجاد الأساليب المناسبة لتحسين إجراءات العمل والنتائج على مستوى الشركة.
تعتمد المؤسسات التعليمية هيكل تنظيمي مسطح يتيح إمكانية تبادل المهارات والمعلومات بسرعة كبيرة بين الموظفين.
تعتمد المؤسسة التعليمية على الخبراء الموجودين فيها في نشر المعلومات والأفكار الجديدة، وإعداد الدورات التدريبية، وإجراء جلسات المنتورينغ، وضمان حصول جميع الموظفين على فرص تتيح لهم إمكانية التعلم من زملائهم.
يعتمد نموذج عمل المؤسسة التعليمية على استثمار الفرص المتاحة للتطوير المستمر، والاستفادة من الأخطاء والتجارب السابقة في تطوير إستراتيجيات العمل على نطاق الشركة.
تؤكد السمات السابقة على أهمية التعلم المستمر وأنَّ الشركة لا ينبغي أن تكتفي بالإعلان عن دعمها لثقافة التعلم المستمر بل هي ملزمة بتوفير الوسائل والفرص التعليمية لموظفيها. يقول "ماثيو سميث" (Matthew Smith) الرئيس التنفيذي لقسم التعلم في شركة "مكنزي وشركاؤه" (McKinsey & Company): "إذا أردت أن تفرض ثقافة التعلم المستمر في الشركة، فأنت ملزم بتزويد موظفيك بالمهارات والفرص التي تمكِّنهم من مواصلة التعلم طوال فترة عملهم في الشركة".
فيما يأتي 3 فوائد لنموذج المؤسسة التعليمية:
تضم هذه المعلومات خطوات القيام بمهام العمل وأساليب التواصل مع العملاء على سبيل المثال. تضمن ثقافة المؤسسة التعليمية الحفاظ على هذه المعلومات ضمن الشركة أثناء تبدل القوى العاملة مع مرور الوقت.
تركز ثقافة المؤسسة التعليمية على جمع المعلومات من الخبراء العاملين ضمنها واستخدامها في إعداد الدورات التدريبية التي تشرح خطوات تأدية مهام العمل. تضمن هذه الخطوة بقاء المعلومات ضمن المؤسسة في حال استقال الموظف الخبير.
يحدث التعلم في النماذج التقليدية عبر إجراء تدريبات واجتماعات إلزامية في أوقات محددة مسبقاً، مما يؤدي إلى تعطيل سير عمل الفريق، لأنَّ المواعيد لا يمكن أن تناسب جميع الموظفين.
بالمقابل، يقتضي نظام المؤسسة التعليمية إجراء جلسات المنتورينغ، وتطبيق برامج تعلم الأقران، وإعداد دورات تدريبية تسمح بالدراسة الذاتية عبر الإنترنت، بالإضافة إلى شبكة المعلومات الداخلية للشركة. هذا يعني أنَّ التعلم يحدث عند الحاجة أي عندما يحتاج الموظف للمعلومات، ويكون لديه ما يكفي من الوقت لاستيعابها.
يؤكد معظم الموظفين أنَّ ضيق الوقت هو السبب الذي يمنعهم من التعلم في مكان العمل، وهنا تبرز فعالية ثقافة المؤسسة التعليمية التي تتيح للموظفين إمكانية التعلم في الوقت الذي يناسبهم. يتسنى للموظف وفق نظام المؤسسة التعليمية أن يختار مواعيد جلساته مع المنتور، والوقت الذي يناسبه لحضور الدورات التدريبية الذاتية دون أن تتعارض هذه المبادرات التعليمية مع عمله في الشركة.
تعتمد ثقافة المؤسسة التعليمية على مبادرات التعلم في تطوير الفِرَق وتوسيع نطاق عمل الشركة، وهي تتعاون مع الموظفين على وضع أهداف تعليمية تساعدهم في تحقيق التنمية المهنية التي يطمحون إليها.
في حال قرر الموظف اكتساب المهارات والخبرات التي تؤهله لتولي منصب جديد، ونجح في تحقيق أهدافه، فإنه سيكون المرشح الأول للترقي لهذا المنصب. يمكن أن تُستخدَم خطط التطوير لمساعدة الموظفين في التأقلم مع التغييرات، ويحدث هذا عندما يشهد قطاع العمل نقلة نوعية، وتضطر الشركة لتغيير نظام العمل بما يتوافق مع المعطيات الجديدة. تُستخدَم الأهداف والمخططات التنموية في هذه الحالة لتزويد الموظفين بالمهارات التي يحتاجون إليها للتأقلم مع التغيرات الجديدة.
يشهد قطاع الأعمال تغيرات وتطورات متسارعة أكثر من أي وقت مضى، مما زاد من أهمية التعلم المستمر ضمن الشركات. تتجه المزيد من الشركات لاعتماد نظام المؤسسة التعليمية بغية تهيئة القوى العاملة لأي تغيرات أو أزمات غير محسوبة تطرأ في السوق. قدم الجزء الأول من المقال معلومات وافية عن مبدأ عمل المؤسسة التعليمية، وخصائصها، وفوائدها، ويبحث الجزء الثاني في خطوات الانتقال إلى نظام عمل المؤسسة التعليمية.