ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن "كريس أندرسون" (Chris Anderson) مؤسس وصاحب مؤتمر "تيد" (Ted) العالمي، ويشاركنا فيه 5 خطوات أساسية لإلقاء خطاب ناجح.
قابلت في إحدى رحلاتي إلى مدينة "نيروبي" (Nairobi) فتى يافع يبلغ عمره 12 عام ويُدعى "ريتشارد توريري" (Richard Turere) وقد أخبرني بقصة ملهمة أود أن أشاركها في المقال. تعمل عائلة "ريتشارد" في تربية الماشية على أطراف المنتزه الوطني، وهي تواجه صعوبة في حماية مواشيها من الحيوانات المفترسة في الحديقة وخاصة في الليل. لاحظ "ريتشارد" أنَّ إنارة الحقل لا تردع هجمات الأسود، لكنها بالمقابل تتراجع عندما يمشي في الحقل وهو يحمل المشعل.
أبدى "ريتشارد" اهتمام وشغف كبير بمجال الإلكترونيات منذ نعومة أظفاره، وكان يتعلم ويطور مهاراته عبر محاولة إصلاح الأدوات والأجهزة الإلكترونية في المنزل. استخدم "ريتشارد" خبرته في مجال الإلكترونيات في ابتكار نظام إنارة تشتعل فيه الأضواء وتنطفئ باستمرار باستخدام ألواح الطاقة الشمسية، وبطارية سيارة، وصندوق إشارة دراجة نارية بهدف إضفاء عنصر الحركة والتغيير داخل الحقل عله يخيف الأسود ويردعها. توقفت الأسود عن مهاجمة المواشي بعد أن انتهى من تثبيت الأضواء، ثم سرعان ما بدأت القرى المجاورة بتطبيق نظام "ريتشارد" الذي أُطلِق عليه اسم "أضواء الأسود".
لقد كانت القصة ملهمة وتستحق المشاركة مع جماهير منصة "تيد" (TED)، ولكن لم يكن "ريتشارد" مؤهل لإلقاء خطاب في مثل هذه المؤتمرات بسبب حيائه الشديد وضعف مهاراته اللغوية الإنجليزية. وبصراحة، كان من الصعب تخيل فتى يافع مثل "ريتشارد" يقدم خطاب أمام جمهور كبير معتاد على حضور متحدثين لامعين من أمثال رجل الأعمال الأمريكي "بيل جيتس" (Bill Gates)، والمحاضر "السير كين روبنسون" (Sir Ken Robinson)، وعالمة تشريح الدماغ "جيل بولت تايلور" (Jill Bolte Taylor).
ولكن كانت قصة "ريتشارد" ملهمة لدرجة أننا دعوناه لإلقاء خطاب قبل عدة أشهر من مؤتمر عام 2013، وساعدناه في صياغة قصته وسرد الأحداث بطريقة مقتضبة ومترابطة منطقياً. حصل "ريتشارد" بفضل اختراعه على منحة دراسية في واحدة من أفضل المؤسسات التعليمية في "كينيا" (Kenya)، وعندها تسنى له أن يتحدث أمام العامة في عدد من المناسبات، مما ساعده في زيادة ثقته بنفسه.
لقد بدا عليه التوتر قبل خطاب مؤتمر "تيد"، لكنه نجح في نيل قبول واستحسان الجمهور الذي تفاعل معه واندمج مع أحداث قصته وتأثر بكل كلمة وابتسامة بدرت عنه، وقد صفق له الحاضرون بحرارة وحفاوة في نهاية الخطاب.
لقد بدأت مؤتمرات "تيد" قبل حوالي 30 عام واستضافت عدد كبير من المتحدثين من الشخصيات السياسية، والتلفزيونية والموسيقيين وغيرهم من الفئات المعتادة على التحدث أمام العامة إلى الشخصيات الأقل شهرة من الأكاديميين، والعلماء، والمؤلفين وغيرهم من الفئات التي تواجه صعوبة في إلقاء الخطابات أمام الجماهير. يعمل الخبراء على تطوير منهجيات تساعد المتحدثين المبتدئين في تحضير الخطابات، ومراجعتها، وتحسينها، والتدرُّب على إلقائها، وغالباً ما تبدأ هذه التدريبات قبل 6-9 أشهر من الحدث. مهارة التحدث أمام العامة وإلقاء الخطابات قابلة للتنمية مع التدريب والممارسة، وقد تجاوز عدد مشاهدات مؤتمرات "تيد" المليار بعد نشرها عبر الإنترنت في عام 2006.
لا بد من توفر محتوى قيِّم يستحق المشاركة مع الآخرين ويلهمهم لكي ينجح الخطاب. تتضمن إجراءات التحضير الأساسية وضع الإطار المفاهيمي للأفكار والتجارب التي تعتزم طرحها.
يشترط نجاح الخطاب إيجاد التوازن الدقيق بين البيانات والحقائق من جهة والسرد القصصي من جهة أخرى.
تشرح المؤلفة "نانسي دوارتي" (Nancy Duarte) أنَّ معظم الخطابات الناجحة تجمع ما بين خصائص التقرير والقصة.
الإنسان مجبول على التفاعل مع القصص، وقد ثبت أنَّ استخدام المجازات والاستعارات في الأساليب السردية يساعد في زيادة اندماج الجمهور مع القصة. يعيش الجمهور تجربة شعورية وفكرية فذة تساعدهم في تغيير وجهات نظرهم تجاه العالم من حولهم في حالة الخطابات الناجحة.
تكمن مشكلة معظم المتحدثين في تحديد مستوى تعقيد المعلومات في الخطاب ومقدار التوسع في الموضوع بما يتناسب مع استيعاب الحاضرين وخبراتهم السابقة. ينبغي أن تراعي محاور المحتوى خبرة الجمهور بموضوع الخطاب ومدى اهتمامهم به. يمكن أن يخطئ المتحدث في تقدير مستوى خبرة الحاضرين واهتمامهم ويبدأ باستخدام مصطلحات تخصصية وشرح أفكار متقدمة ومعقدة مما يؤدي إلى إرباكهم وإحباطهم وعجزهم عن متابعة الخطاب. يقوم المتحدث المتمكِّن بإلقاء مقدمة مقتضبة عن الموضوع، وتوضيح الأسباب والدوافع الكامنة خلف اهتمامه به، وإقناع الجمهور المستهدف بضرورة القيام بالمثل.
تكمن مشكلة معظم محاولات الإلقاء الأولى في كثافة المعلومات التي يقدمها المتحدث. يعمد البعض إلى تلخيص جميع المعلومات والأفكار التي يعرفونها عن الموضوع في خطاب واحد، ولكن لا يتسنى لهم الخوض في التفاصيل بسبب ضيق الوقت. ينجح هذا النوع من الخطابات مع الجماهير المختصة بالموضوع المطروح، لكنه يفشل مع المبتدئين ويتسبب في إحباطهم. أنت بحاجة لتقديم أمثلة دقيقة توضح أفكارك، وتحديد نطاق التوسع في الموضوع بحسب الوقت المتوفر. يُنصَح بعدم التوسع بالموضوع والتركيز على مجموعة محددة من المحاور وتقديمها بالتفصيل.
يمكن أن يؤدي التفسير المفصل والزائد عن الحد من ناحية أخرى إلى فشل الخطاب لأنه يستخف بعقول الحاضرين وقدرتهم على الاستيعاب. يجب أن تترك للحاضرين مجال للتفكير وتكوين استنتاجاتهم الخاصة.
تتبع معظم الخطابات الناجحة أسلوب سردي يشبه القصص البوليسية، بحيث يبدأ المتحدث بطرح المشكلة ثم يشرح مراحل البحث عن الحل. يصل الخطاب إلى مرحلة معيَّنة تبدأ عندها وجهات نظر الحاضرين بالتغير نحو الأفضل.
يفشل الخطاب عندما لا يحسن المتحدث صياغته، أو يخطئ في تقدير مستوى اهتمام الحاضرين بالموضوع، أو يهمل عنصر السرد القصصي. يمكن أن يحدث الفشل من ناحية أخرى عندما يغلب التباهي على الخطاب ولا يسرد المتحدث قصته بطريقة تساعد الجمهور في استنتاج العبرة منها.
حضرت في الآونة الأخيرة مؤتمر تحدَّث فيه عمدة بلدة، ومحافِظة سابقة، وقد ركز العمدة في خطابه على سرد المشاريع التي أُجرِيت في المدينة، وبدا أنه يتفاخر ويحاول استغلال وجوده في المؤتمر في الحصول على الأصوات التي تضمن نجاحه في الانتخابات المقبلة. سرعان ما شعر الحاضرون بالملل من حديثه، ولكن اتبعت المحافِظة السابقة أسلوب مختلف وحاولت أن تنقل للحاضرين فكرة ملهمة عن طريق سرد مجموعة من المواقف المستوحاة من مكان العمل، وقد كانت القصص بمثابة أمثلة توضيحية وطريفة في آنٍ معاً مما أثار اهتمام الحاضرين وفضولهم. كان خطاب العمدة عبارة عن حملة انتخابية وتفاخر بإنجازاته، في حين ركزت المحافِظة على سرد قصص تحتوي على عبرة مفيدة للجميع.
خلاصة القول، لا يحبذ الناس الخطابات التي تركز على المؤسسات والمنظمات، لكنهم بالمقابل يندمجون مع الأفكار والقصص الملهمة. لا تتفاخر بإنجازات الشركة، وحاول أن تخبر جمهورك بالمشكلة التي تعمل على حلها.
توجد 3 طرائق رئيسة لإلقاء الخطاب، فإما أن تقرأه مباشرةً من الشاشة، أو تدوِّن العناوين الرئيسية والفرعية التي تلخص محاور الموضوع، أو تحفظه عن ظهر قلب وتتمرن على إلقائه حرفياً.
لا يُنصَح بقراءة الخطاب من الشاشة حتى لا ينخفض مستوى تجاوب الجمهور معك، وتفقد التواصل معهم، ويصبح الخطاب رسمي. هذه الطريقة مرفوضة في مؤتمرات "تيد"، ولكن حصل أحدهم على استثناء قبل عدة سنوات، وعندها قام الفريق بتثبيت شاشة في الجزء الخلفي من المدرج حتى لا يلاحظها الحاضرون. كان المتحدث يلقي خطابه بشكل طبيعي في البداية لكنه سرعان ما توتر وبدا عليه الارتباك عندما أدرك الحاضرون أنه يقرأ من الشاشة. لقد كانت المعلومات قيِّمة، ولكن حصل الخطاب على تقييم منخفض.
يحتاج حفظ الخطاب والتدرُّب على إلقائه للكثير من الوقت والجهد ويُنصَح باتباع هذه الطريقة عند الإمكان. وتجدر الإشارة هنا إلى تجربة عالمة تشريح الدماغ "جيل بولت تايلور" التي تعرضت لسكتة دماغية، وقد تحدثت في خطابها عما تعلمته خلال سنوات المرض قبل أن تستعيد عافيتها.
قامت "تايلور" بصياغة قصتها والتدرُّب على إلقائها بمفردها وأمام جمهور حقيقي عدد كبير من المرات حتى حفظتها عن ظهر قلب.
لا تستحق بعض الخطابات هذا الوقت والجهد في الحفظ، وتكمن المشكلة الحقيقية في مشاعر القلق والحرج التي تنتاب المتحدث عندما يختار هذه الطريقة لكنه لا يحفظ الخطاب عن ظهر قلب، وينتبه الجمهور لتوتره أثناء الإلقاء. يبدو المتحدث وكأنه يقرأ الخطاب بشكل حرفي يفتقر للحماس والشغف مما يؤثر على تجاوب الحاضرين، وقد تراه يحدق في الفراغ أو ينظر للأعلى محاولاً تذكر ما حفظه.
يمكن تجاوز هذه المشكلة ببساطة عن طريق مراجعة الخطاب مرة تلو أخرى حتى تحفظه عن ظهر قلب، ثم تتدرب على إلقائه بشغف وحماس.
ولكن لا يُنصَح بطريقة الحفظ إذا كنت لا تمتلك ما يكفي من الوقت للمراجعة والتدريب، وعندها يُفضَّل أن تدوِّن عناوين المحاور الرئيسية والفرعية على أوراق الملاحظات وتركز على حفظ عبارات الانتقال بين المحاور.
عليك أن تنتبه من ناحية أخرى لنبرة صوتك فهي تساعد في تكوين الانطباع المطلوب في ذهن الحاضرين. يحاول بعض المتحدثين إبراز خبرتهم، أو شغفهم، أو قدراتهم، وفي شتى الأحوال، يُفضَّل أن تركز على استعراض براعتك في الحديث والتحاور. عليك أن تكون صادقاً وتتصرف على سجيتك ولا تضغط على نفسك.
إياك أن تتباهى بنفسك حتى لا تبدو متكبر ومتعالي وينفر منك الجمهور، وتذكر أنَّ راحة الحاضرين تحدد قبولهم ومدى تجاوبهم معك أثناء إلقاء الخطاب.
في الختام
الخطاب الناجح هو عبارة عن تجربة يصممها المتحدث للجمهور، ويتألف من مجموعة من المراحل والخطوات التي تضمن النجاح في تحقيق التأثير المطلوب. قدم "كريس أندرسون" في الجزء الأول من المقال خطوتين لإلقاء خطاب ناجح، ويمكن الاطلاع على بقية الخطوات في الجزء الثاني منه.